فصل: ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته

قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما من حديث إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها ما اسمك‏؟‏

فتقول‏:‏ كذا‏.‏

فيقول‏:‏ لأي شيء أنت‏؟‏

فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه‏.‏

فقال لها‏:‏ ما اسمك‏؟‏

قالت‏:‏ الخروب‏.‏

قال‏:‏ لأي شيء أنت‏؟‏

قالت‏:‏ لخراب هذا البيت‏.‏

فقال سليمان‏:‏ اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولاً، والجن تعمل فأكلتها الأرضة، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولاً في العذاب المهين، - قال وكان ابن عباس يقرؤها كذلك-‏.‏

قال‏:‏ فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء‏)‏‏)‏‏.‏

لفظ ابن جرير‏.‏

وعطاء الخراساني في حديثه نكارة‏.‏

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفاً، وهو أشبه بالصواب، والله أعلم‏.‏

وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة‏:‏

كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفي فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه، إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها ما اسمك‏؟‏

فتقول الشجرة‏:‏ اسمي كذا وكذا‏.‏

فيقول لها‏:‏ لأي شيء نبت‏؟‏

فتقول‏:‏ نبت لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا، فيجعلها كذلك‏.‏

حتى نبتت شجرة يقال لها‏:‏ الخروبة فسألها‏:‏ ما اسمك‏؟‏

فقالت‏:‏ أنا الخروبة‏.‏

فقال‏:‏ ولأي شيء نبت‏؟‏

فقالت‏:‏ نبت لخراب هذا المسجد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/38‏)‏

فقال سليمان‏:‏ ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي، وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات، ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون له، يخافون أن يخرج فيعاقبهم‏.‏

وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول الست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر‏.‏

فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق، ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع‏.‏

ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته - وهي العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة‏.‏

وهي قراءة ابن مسعود فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذلك قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏}‏‏.‏

يقول‏:‏ تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة‏:‏ لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين، قال فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، قال‏:‏ ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب، فهو ما يأتيها بها الشيطان تشكراً لها، وهذا فيه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب‏.‏

وقال أبو داود في كتاب القدر‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة قال‏:‏ قال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت‏:‏ إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني، قال‏:‏ ما أنا أعلم بذاك منك، إنما هي كتب يلقي إلي فيها تسمية من يموت‏.‏

وقال أصبغ بن الفرج، وعبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال‏:‏ قال سليمان لملك الموت‏:‏ إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال‏:‏ يا سليمان قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير، ليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال‏:‏ فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوك على عصاه، ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت‏.‏

قال‏:‏ والجن تعمل بين يديه، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، قال‏:‏ فبعث الله دابة الأرض - يعني - إلى منسأته فأكلتها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر، فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، قال فذلك قوله‏:‏ ‏{‏مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏}

قال أصبغ، وبلغني عن غيره‏:‏ أنها مكثت سنة تأكل في منسأته حتى خرَّ‏.‏ وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم، والله أعلم‏.‏

قال إسحاق بن بشر، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وغيره‏:‏ أن سليمان عليه السلام عاش ثنتين وخمسين سنة، وكان ملكه أربعين سنة‏.‏

وقال إسحاق‏:‏ أنبأنا أبو روق، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن ملكه كان عشرين سنة، والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفا وخمسين سنة‏.‏

وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر، ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير، وقال‏:‏ ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل‏.‏

 باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان وقبل زكريا ويحيى عليهم السلام  فمنهم شعيا بن أمصيا

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان قبل زكريا ويحيى، وهو ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام، وكان في زمانه ملك اسمه حزقيا على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس، وكان سامعاً مطيعاً لشعيا فيما يأمره به، وينهاه عنه من المصالح، وكانت الأحداث قد عظمت في بني إسرائيل فمرض الملك، وخرجت في رجله قرحة، وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان، وهو سنحاريب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ في ستمائة ألف راية، وفزع الناس فزعاً عظيماً شديداً، وقال الملك للنبي شعيا‏:‏ ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده‏؟‏ فقال‏:‏ لم يوح إليّ فيهم شي بعد‏.‏

ثم نزل عليه الوحي بالأمر للملك حزقيا، بأن يوصي ويستخلف على ملكه من يشاء، فإنه قد اقترب أجله، فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي، ويتضرع إلى الله عز وجل بقلب مخلص، وتوكل وصبر‏:‏

اللهم رب الأرباب، وإله الآلهة القدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم المترحم الرؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعلمي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي سري وإعلاني لك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 40‏)‏

قال‏:‏ فاستجاب الله له ورحمه، وأوحى الله إلى شعيا أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه، وقد أخر في أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب وجنوده، فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر ساجداً وقال في سجوده‏:‏

يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت، اللهم أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي‏.‏

فلما رفع رأسه، أوحى الله إلى شعيا أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، ويصبح قد برئ‏.‏

ففعل ذلك فشفي، وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت، فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه منهم‏:‏ بخت نصّر‏.‏

فأرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم فجعلهم في الأغلال، وطاف بهم في البلاد على وجه التنكيل بهم والإهانة لهم، سبعين يوما، ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير، ثم أودعهم السجن‏.‏

وأوحى الله تعالى إلى شعيا، أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم لينذروا قومهم ما قد حل بهم، فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما قد كان من أمرهم، فقال له السحرة والكهنة‏:‏ إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به‏.‏ ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم لما مات حزقيا ملك بني إسرائيل، مرج أمرهم، واختلطت أحداثهم، وكثر شرهم، فأوحى الله تعالى إلى شعيا، فقام فيهم فوعظهم وذكرهم، وأخبرهم عن الله بما هو أهله، وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه‏.‏

فلما فرغ من مقالته عدوا عليه، وطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها، فلما رأوا ذلك جاؤوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها، ونشروه معها، فإنا الله وإنا إليه راجعون‏.‏

 ومنهم ارميا بن حلقيا من سبط لاوي بن يعقوب

وقد قيل إنه الخضر‏.‏ رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وهو غريب وليس بصحيح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 41‏)‏

قال ابن عساكر‏:‏ جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا وهو يفور بدمشق، فقال‏:‏ أيها الدم فتنت الناس فاسكن فسكن، ورسب حتى غاب‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثني علي بن أبي مريم، عن أحمد بن حباب، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال‏:‏ قال أرميا‏:‏ أي رب أي عبادك أحب إليك‏؟‏

قال‏:‏ أكثرهم لي ذكراً، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق، الذين لا تعرض لهم وسادس الفناء، ولا يحدثون أنفسهم بالبقاء، الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه، وإذا زوى عنهم سروا بذلك، أولئك أنحلهم محبتي، وأعطيهم فوق غاياتهم‏.‏

 ذكر خراب بيت المقدس

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2-8‏]‏‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا، حين ظهرت فيهم المعاصي‏:‏ أن قم بين ظهراني قومك، فأخبرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون، وأعيناً ولا يبصرون، وآذاناً ولا يسمعون، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم، فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقي أحد ممن أطاعني بطاعتي‏؟‏

إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها، وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها، أما أحبارهم فأنكروا حقي، وأما قراؤهم فعبدوا غيري، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى رسلي، خزنوا المكر في قلوبهم، وعودوا الكذب ألسنتهم‏.‏

وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيولاً لا يفقهون ألسنتهم، ولا يعرفون وجوههم، ولا يرحمون بكاءهم، ولأبعثن فيهم ملكاً جباراً قاسياً، له عساكر كقطع السحاب، ومواكب كأمثال الفجاج، كأن خفقان راياته طيران النسور، وكأن حمل فرسانه كر العقبان، يعيدون العمران خراباً، ويتركون القرى وحشة، فيا ويل إيليا وسكانها، كيف أذللهم للقتل، وأسلط عليهم السباع، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخاً، ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 42‏)‏

وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد شرافات القصور مساكن السباع، وبعد ضوء السرج وهج العجاج، وبالعز ذلاً، وبالنعمة العبودية، وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب، وبالمشي على الزرابي الخبب، ولأجعلن أجسادهم زبلاً للأرض، وعظامهن ضاحية للشمس، ولأدوسنهم بألوان العذاب، ثم لآمرن السماء فتكون طبقاً من حديد، والأرض سبيكة من نحاس، فإن أمطرت لم تنبت الأرض، وإن أنبتت شيئاً في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم‏.‏

ثم أحبسه في زمان الزرع، وأرسله في زمان الحصاد، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئاً سلطت عليه الآفة، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة، فإن دعوني لم أجبهم، وإن سألوا لم أعطهم، وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم‏.‏ رواه ابن عساكر بهذا اللفظ‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ أنبأنا إدريس، عن وهب بن منبه قال‏:‏ إن الله تعالى لما بعث أرميا إلى بني إسرائيل، وذلك حين عظمت الأحداث فيهم، فعملوا بالمعاصي وقتلوا الأنبياء، طمع بخت نصر فيهم، وقذف الله في قلبه، وحدث نفسه بالمسير إليهم، لما أراد الله أن ينتقم به منهم، فأوحى الله إلى أرميا إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم، فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحي‏.‏

فقام أرميا فشق ثيابه، وجعل الرماد على رأسه، وخر ساجداً وقال‏:‏ يا رب وددت أمي لم تلدني، حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل، فيكون خراب بين المقدس، وبوار بني إسرائيل من أجلي، فقال له‏:‏ ارفع رأسك، فرفع رأسه فبكى، ثم قال‏:‏ يا رب من تسلط عليهم‏؟‏ فقال‏:‏ عبدة النيران، لا يخافون عقابي، ولا يرجون ثوابي‏.‏

قم يا أرميا فاستمع وحي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل‏.‏ من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك، ولأمر عظيم أجتبيتك‏.‏

فقم مع الملك تسدده وترشده، فكان مع الملك يسدده، ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم، ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده، فأوحى الله إلى أرميا أن ائت قومك من بني إسرائيل‏.‏

قم فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتي عليهم، وعرفهم أحداثهم‏.‏

فقال أرميا‏:‏ يا رب إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن الخلق والأمر كله لي، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي، فأقلبها كيف شئت فتطيعني، فأنا الله الذي ليس شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وإنه لا يخلص التوحيد ولم تتم القدرة إلا لي، ولا يعلم ما عندي غيري‏.‏ ‏(‏ج/ ص‏:‏ 2/43‏)‏

وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها ففعلت أمري، وحددت عليها حدوداً فلا تعدو حدي، وتأتي بأمواج كالجبال فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة لطاعتي، وخوفاً واعترافاً لأمري، وإني معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي، لتبلغهم رسالاتي فتستوجب لذلك أجر من اتبعك ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً‏.‏

انطلق إلى قومك فقم فيهم‏.‏

وقل لهم‏:‏ إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم، فلذلك استبقاكم يا معشر أبناء الأنبياء، وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي‏؟‏

وكيف وجدتم مغبة معصيتي‏؟‏

وهل وجدوا أحداً عصاني فسعد بمعصيتي‏؟‏ د

وهل علموا أحداً أطاعني فشقي بطاعتي‏؟‏

إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة، وتركوا الأمر الذي به أكرمت آباءهم، وابتغوا الكرامة من غير وجهها‏.‏

أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولاً يتعبدونهم، ويعملون فيهم بغير كتابي، حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري وسنتي، وعزوهم عني، فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي‏.‏

وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي، ونسوا عهدي، فهم يحرفون كتابي، ويفترون على رسلي، جرأة منهم علي، وغرة بي، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي‏؟‏ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي‏؟‏ وهل ينبغي لي أن أخلق عباداً أجعلهم أرباباً من دوني‏؟‏ أو آذن لأحد بالطاعة لأحد، وهي لا تنبغي إلا لي‏.‏

وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، ويطيعونهم في معصيتي، ويوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي، فهم جهلة بما يعلمون، لا ينتفعون بشيء مما علموا من كتابي‏.‏

وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون، يخوضون مع الخائضين، يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم، بغير صدق منهم ولا تفكر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم، وكيف كان جهدهم في أمري، حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني‏.‏

فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني، فتطولت عليهم، وصفحت عنهم، فأكثرت ومددت لهم في العمر، وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون، وكل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية، وأظهرهم على العدو، ولا يزدادون إلا طغياناً وبعداً مني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/44‏)‏

فحتى متى هذا‏؟‏

أبي يسخرون‏؟‏

أم بي يتحرشون‏؟‏

أم إياي يخادعون‏؟‏

أم علي يجترئون‏؟‏

فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم، ويضل فيها رأي ذوي الرأي، وحكمة الحكيم، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتباً ألبسه الهيبة، وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة، وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم‏.‏

له فيه عساكر مثل قطع السحاب، ومواكب مثل العجاج، وكأن حفيف راياته طيران النسور، وحمل فرسانه كسرب العقبان، يعيدون العمران خراباً والقرى وحشاً، ويعثون في الأرض فساداً، ويتبرون ما علوا تتبيراً، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون، ولا يرحمون، ولا يبصرون، ولا يسمعون، يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد، تقشعر من هيبتها الجلود، وتطيش من سمعها الأحلام بألسنة لا يفقهونها، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها‏.‏

فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي، ولأخلين مجالسهم من حديثها ودروسها، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها، الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير الدين، ويتعلمون فيها لغير العمل‏.‏

لأبدلن ملوكها بالعز الذل، وبالأمن الخوف، وبالغنى الفقر، وبالنعمة الجوع، وبطول العافية والرخاء أنواع البلاء، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء، وبالأرواح الطيبة والأدهان جيف القتل، وبلباس التيجان أطواق الحديد، والسلاسل والأغلال‏.‏

ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة، والحصون الحصينة الخراب، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد ضوء السراج دخان الحريق، وبعد الأنس الوحشة والقفار‏.‏

ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار، والخبب إلى الليل في بطون الأسواق، وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه، والسوق والأسفار والأرواح السموم‏.‏

ثم لأدوسنهم بأنواع العذاب، حتى لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه، إني إنما أكرم من أكرمني، وإنما أهين من هان عليه أمري‏.‏

ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقاً من حديد، ولآمرن الأرض فلتكونن سبيكة من نحاس، فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت، فإن أمطرت خلال ذلك شيئاً سلطت عليهم الآفة، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة، وإن دعوني لم أجبهم، وإن سألوني لم أعطهم، وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم‏.‏

وإن قالوا‏:‏ اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآبائنا من قبلنا برحمتك وكرامتك، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك، وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك، ثم مكنت لنا في البلاد، واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغاراً، وحفظتنا وإياهم برحمتك كباراً، فأنت أوفى المنعمين وإن غيّرنا، ولا تبدل وإن بدلنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 45‏)‏

وإن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك، فإن قالوا ذلك قلت لهم‏:‏ إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي، فإن قبلوا أتممت، وإن استزادوا زدت، وإن شكروا ضاعفت، وإن غيروا غيرت، وإذا غيروا غضبت، وإذا غضبت عذبت، وليس يقوم شيء بغضبي‏.‏

قال كعب‏:‏ فقال أرميا‏:‏ برحمتك أصبحت أتعلم بين يديك، وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك، ولكن برحمتك أبقيتني لهذا اليوم، وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولاً، والإقامة في دار الخاطئين، وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني، فإن تعذبني فبذنبي، وإن ترحمني فذلك ظني بك‏.‏

ثم قال‏:‏ يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت ربنا وتعاليت، أتهلك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك‏؟‏ يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد، ومن البيوت التي رفعت لذكرك، يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الأمة وعذابك إياهم، وهم من ولد إبراهيم خليلك، وأمة موسى نجيك، وقوم داود صفيك‏.‏

يا رب أي القرى تأمن عقوبتك بعد‏؟‏ وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم‏؟‏ وأمة نجيك موسى‏؟‏ وقوم خليفتك داود‏؟‏ تسلط عليهم عبدة النيران‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ يا أرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتي، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي، ولو أنهم عصوني لأنزلنهم دار العاصين إلا أن أتداركهم برحمتي‏.‏

قال أرميا‏:‏ يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً وحفظتنا به، وموسى قربته نجياً، فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا، ولا تسلط علينا عدونا، فأوحى الله إليه‏:‏

يا أرميا إني قدستك في بطن أمك، وأخرتك إلى هذا اليوم، فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل، لمكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة، ناعم شجرها، طاهر ماؤها، ولا يغور ماؤها، ولا تبور ثمارها ولا تنقطع‏.‏

ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل‏:‏ إني كنت لهم بمنزلة الداعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة، وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشاً ينطح بعضها بعضاً، فيا ويلهم ثم يا ويلهم، إنما أكرم من أكرمني، وأهين من هان عليه أمري، إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي‏.‏

وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعاً فيظهرونها في المساجد والأسواق، وعلى رؤوس الجبال، وظلال الأشجار، حتى عجت السماء إليَّ منهم، وعجت الأرض والجبال، ونفرت منها الوحوش بأطراف الأرض وأقاصيها، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2 /46‏)‏

قال‏:‏ فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم، وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب، عصوه وكذبوه واتهموه، وقالوا‏:‏ كذبت وأعظمت على الله الفرية، فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته وتوحيده، فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد، ولا مسجد ولا كتاب‏.‏

لقد أعظمت الفرية على الله، واعتراك الجنون، فأخذوه وقيدوه وسجنوه، فعند ذلك بعث الله عليهم بخت نصر، فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم، ثم حاصرهم فكان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه، ففتحوا الأبواب وتخللوا الأزقة، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ‏}‏ وحكم فيهم حكم الجاهلية، وبطش الجبارين، فقتل منهم الثلث، وسبى الثلث، وترك الزمنى والشيوخ والعجائز، ثم وطئهم بالخيل، وهدم بيت المقدس، وساق الصبيان، وأوقف النساء في الأسواق حاسرات، وقتل المقاتلة، وخرب الحصون، وهدم المساجد، وحرق التوراة، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب، فوجدوه قد مات‏.‏

وأخرج لهم أهل بيته الكتاب إليه، وكان فيهم دانيال بن حزقيل الأصغر، وميشائيل، وعزرائيل، وميخائيل، فأمضى لهم ذلك الكتاب، وكان دانيال بن حزقيل خلفاً من دانيال الأكبر‏.‏

ودخل بخت نصر بجنوده بيت المقدس، ووطئ الشام كلها، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، فلما فرع منها انصرف راجعاً وحمل الأموال التي كانت بها، وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين ألف غلام، وقذف الكناسات في بيت المقدس، وذبح فيه الخنازير‏.‏

وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود، وأحد عشر ألفاً من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط ايشى بن يعقوب، وأربعة عشر ألفاً من سبط زبالون، ونفتالي ابني يعقوب، وأربعة عشر ألفاً من سبط دان بن يعقوب، وثمانية آلاف من سبط يستاخر بن يعقوب، وألفين من سبط زبالون بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي، واثني عشر ألفاً من سائر بني إسرائيل، وانطلق حتى قدم أرض بابل‏.‏

قال إسحاق بن بشر‏:‏ قال وهب بن منبه‏:‏ فلما فعل ما فعل، قيل له‏:‏ كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم، ويصفك وخبرك لهم، ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتهدم مساجدهم، وتحرق كنائسهم، فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه‏.‏

فأمر بخت نصر فأخرج أرميا من السجن، فقال له‏:‏ أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فأنى علمت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أرسلني الله إليهم فكذبوني‏.‏

قال‏:‏ كذبوك وضربوك وسجنوك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ بئس القوم قوم كذبوا نبيهم، وكذبوا رسالة ربهم، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأواسيك، وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك‏.‏

قال له أرميا‏:‏ إني لم أزل في أمان الله منذ كنت، لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك، ولم يكن لك عليهم سلطان، فلما سمع بخت نصر هذا القول منه تركه، فأقام أرميا مكانه بأرض إيليا‏.‏

وهذا سياق غريب‏.‏ وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة‏.‏ وفيه من جهة التعريب غرابة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 47‏)‏

وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي‏:‏ كان بخت نصر أصفهبذا لما بين الأهواز إلى الروم للملك على الفرس، وهو لهراسب‏.‏ وكان قد بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الأماكن، وبعث بخت نصر لقتال بني إسرائيل بالشام، فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق، وقد قيل‏:‏ إن الذي بعث بخت نصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب، وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم‏.‏

وقد روى ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب‏:‏ أن بخت نصر لما قدم دمشق وجد بها دماً يغلي على كبا - يعني القمامة - فسألهم ما هذا الدم‏؟‏ فقالوا‏:‏ أدركنا آباءنا على هذا‏.‏ وكلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال‏:‏ فقتل على ذلك سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم فسكن‏.‏

وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا، وهذا لا يصح لأن يحيى بن زكريا بعد بخت نصر بمدة، والظاهر أن هذا دم نبي متقدم، أو دم لبعض الصالحين، أو لمن شاء الله ممن الله أعلم به‏.‏

قال هشام بن الكلبي‏:‏ ثم قدم بخت نصر بيت المقدس فصالحه ملكها، وكان من آل داود، وصانعه عن بني إسرائيل، وأخذ منه بخت نصر رهائن ورجع‏.‏ فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه، لأجل أنه صالحه فضرب رقاب من معه من الرهائن، ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة‏.‏

وقتل المقاتلة، وسبى الذرية‏.‏ قال‏:‏ وبلغني أنه وجد في السجن أرميا النبي، فأخرجه وقص عليه ما كان من أمره إياهم، وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه‏.‏ فقال بخت نصر‏:‏ بئس القوم قوم عصوا رسول الله، وخلى سبيله، وأحسن إليه، واجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا‏:‏ إنا قد أسأنا وظلمنا ونحن نتوب إلى الله عز وجل مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا، فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة‏.‏

فأخبرهم ما أمره الله تعالى به فقالوا‏:‏ كيف نقيم بهذه البلدة وقد خرجت وغضب الله على أهلها‏؟‏ فأبوا أن يقيموا‏.‏

قال ابن الكلبي‏:‏ ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد، فنزلت طائفة منهم الحجاز، وطائفة يثرب، وطائفة وادي القرى، وذهبت شرذمة منهم إلى مصر، فكتب بخت نصر إلى ملكها يطلب منه من شرد منهم إليه، فأبى عليه، فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبى ذراريهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 48‏)‏

ثم ركب إلى بلاد المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية‏.‏ قال‏:‏ ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب، ومصر، وأهل بيت المقدس، وأرض فلسطين، والأردن، وفي السبي دانيال وغيره من الأنبياء‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الأصغر، لا الأكبر، على ما ذكره وهب بن منبه، والله أعلم‏.‏

 ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام

قال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الأعلى الشيباني قال‏:‏ إن لم أكن سمعته من شعيب بن صفوان، فحدثني بعض أصحابنا عنه، عن الأجلح الكندي، عن عبد الله بن أبي الهذيل قال‏:‏ ضرا بخت نصر أسدين، فألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب‏.‏

فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام‏:‏ أن اعدد طعاماً وشراباً لدانيال، فقال‏:‏ يا رب أنا بالأرض المقدسة، ودانيال بأرض بابل من أرض العراق، فأوحى الله إليه أن أعدد ما أمرناك به، فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددت‏.‏

ففعل وأرسل إليه من حمله، وحمل ما أعده، حتى وقف على رأس الجب، فقال دانيال‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ أنا أرميا‏.‏

فقال‏:‏ ما جاء بك‏؟‏

فقال‏:‏ أرسلني إليك ربك‏.‏

قال‏:‏ وقد ذكرني ربي‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فقال دانيال‏:‏ الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي يجيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة، والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين ينقطع الحيل عنا‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن أبي خلد بن دينار، حدثنا أبو العالية قال‏:‏ لما افتتحنا تستر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا‏.‏

فقلت لأبي العالية‏:‏ ما كان فيه‏؟‏

قال‏:‏ سيركم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد‏.‏

قلت‏:‏ فما صنعتم بالرجل‏؟‏

قال‏:‏ حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس، فلا ينبشونه‏.‏

قلت‏:‏ فما يرجون منه‏؟‏

قال‏:‏ كانت السماء إذا حبست عنهم المطر برزوا بسريره فيمطرون‏.‏

قلت‏:‏ من كنتم تظنون الرجل‏؟‏

قال‏:‏ رجل يقال له دانيال‏.‏

قلت‏:‏ منذ كم وجدتموه قد مات‏؟‏

قال‏:‏ منذ ثلاثمائة سنة‏.‏

قلت‏:‏ ما تغير منه شيء‏؟‏

قال‏:‏ لا إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 49‏)‏

وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظاً من ثلاثمائة سنة، فليس بنبي، بل هو رجل صالح لأن عيسى بن مريم ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي، بنص الحديث الذي في البخاري‏.‏

والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة، وقيل ستمائة وعشرون سنة، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة، وهو قريب من وقت دانيال إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الأمر، فإنه قد يكون رجلاً آخر، إما من الأنبياء، أو الصالحين‏.‏

ولكن قربت الظنون أنه دانيال لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجوناً، كما تقدم، وقد روي بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر‏.‏ وعن أنس بن مالك بإسناد جيد‏:‏ أن طول أنفه ذراع، فيحتمل على هذا أن يكون رجلاً من الأنبياء الأقدمين قبل هذه المدد، والله أعلم‏.‏

وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب أحكام القبور‏:‏ حدثنا أبو بلال محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، حدثنا أبو محمد القاسم بن عبد الله، عن أبي الأشعث الأحمري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن دانيال دعا ربه عزَّ وجل أن تدفنه أمة محمد‏)‏‏)‏‏.‏

فلما افتتح أبو موسى الأشعري تستر، وجده في تابوت تضرب عروقه ووريده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من دل على دانيال فبشروه بالجنة‏)‏‏)‏‏.‏

فكان الذي دل عليه رجل يقال له حرقوص، فكتب أبو موسى إلى عمر بخبره، فكتب إليه عمر أن ادفنه، وابعث إلى حرقوص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة، وهذا مرسل من هذا الوجه‏.‏ وفي كونه محفوظاً نظر، والله أعلم‏.‏

ثم قال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا أبو بلال، حدثنا قاسم بن عبد الله، عن عنبسة بن سعيد، وكان عالماً قال‏:‏ وجد أبو موسى مع دانيال مصحفاً، وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر‏:‏ أما المصحف فابعث به إلينا، وأما الودك فابعث إلينا منه، ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به، واقسم الدراهم بينهم، وأما الخاتم فقد نفلناكه‏.‏

وروي عن ابن أبي الدنيا من غير وجه‏:‏ أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال، التزمه وعانقه وقبله، وكتب إلى عمر يذكر له أمره، وأنه وجد عنده مالاً موضوعاً قريبا من عشرة آلاف درهم، وكان من جاء اقترض منها، فإن ردها وإلا مرض، وإن عنده ربعة، فأمر عمر بأن يغسل بماء وسدر، ويكفن ويدفن ويخفى قبره، فلا يعلم به أحد، وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال، وبالربعة فتحمل إليه، ونفله خاتمه‏.‏

وروي عن أبي موسى‏:‏ أنه أمر أربعة من الأسراء فسكروا نهراً، وحفروا في وسطه قبراً، فدفنه فيه ثم قدم الأربعة الأسراء فضرب أعناقهم، فلم يعلم موضع قبره غير أبي موسى الأشعري رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2 /50‏)‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثني إبراهيم بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال‏:‏ رأيت في يد ابن بردة بن أبي موسى الأشعري خاتماً نقش فصه أسدان، بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل‏.‏

قال أبو بردة‏:‏ هذا خاتم ذلك الرجل الميت، الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال، أخذه أبو موسى يوم دفنه‏.‏

قال أبو بردة‏:‏ فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فقالوا‏:‏ إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه، جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له‏:‏ إنه يولد ليلة كذا وكذا غلام يعور ملكك ويفسده، فقال الملك‏:‏ والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته، إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد، فبات الأسد ولبوته يلحسانه ولم يضراه، فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه، فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ‏.‏

قال أبو بردة‏:‏ قال أبو موسى‏:‏ قال علماء تلك القرية فنقش دانيال صورته، وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه، لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك‏.‏ إسناد حسن‏.‏

 ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها، واجتماع الملأ من بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الأرض و شعابها

قال الله تعالى في كتابه المبين، وهو أصدق القائلين‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏

قال هشام بن الكلبي‏:‏ ثم أوحى الله تعالى إلى أرميا عليه السلام فيما بلغني‏:‏ أني عامر بيت المقدس فأخرج إليها فأنزلها، فخرج حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه‏:‏ سبحان الله أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمرها‏؟‏ ومتى يحييها الله بعد موتها‏؟‏

ثم وضع رأسه فنام، ومعه حماره وسلة من طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك بخت نصر، والملك الذي فوقه، وهو لهراسب، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وقام بعده ولده بشتاسب بن لهراسب، وكان موت بخت نصر في دولته، فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 51‏)‏

فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل‏:‏ أن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع، وملَّك عليهم رجلاً من آل داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها، فرجعوا فعمروها، وفتح الله لأرميا عينيه فنظر إلى المدينة كيف تبني، وكيف تعمر، ومكث في نومه ذلك حتى تمت له مائة سنة، ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة، وقد عهد المدينة خراباً فلما نظر إليها عامرة آهلة، قال‏:‏ أعلم أن الله على كل شيء قدير‏.‏

قال‏:‏ فأقام بنو إسرائيل بها، ورد الله عليهم أمرهم، فمكثوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم في زمن ملوك الطوائف‏.‏ ثم لم يكن لهم جماعة ولا سلطان، يعني بعد ظهور النصارى عليهم، هكذا حكاه ابن جرير في تاريخه عنه‏.‏

وذكر ابن جرير أن لهراسب كان ملكاً عادلاً سائساً لمملكته، قد دانت له العباد، والبلاد، والملوك، والقواد، وأنه كان ذا رأي جيد في عمارة الأمصار، والأنهار، والمعاقل‏.‏ ثم لما ضعف عن تدبير المملكة بعد مائة سنة ونيف، نزل عن الملك لولده بشتاسب، فكان في زمانه ظهور دين المجوسية‏.‏

وذلك أن رجلاً كان اسمه زردشت، كان قد صحب أرميا عليه السلام، فأغضبه فدعا عليه أرميا، فبرص زردشت، فذهب فلحق بأرض آذربيجان، وصحب بشتاسب، فلقنه دين المجوسية الذي اخترعه من تلقاء نفسه، فقبله منه بشتاسب، وحمل الناس عليه وقهرهم، وقتل منهم خلقاً كثيراً ممن أباه منهم‏.‏

ثم كان بعد بشتاسب، بهمن بن بشتاسب وهو من ملوك الفرس المشهورين، والأبطال المذكورين، وقد ناب بخت نصر لكل واحد من هؤلاء الثلاثة، وعمَّر دهراً طويلاً قبحه الله‏.‏

والمقصود أن هذا الذي ذكره ابن جرير من أن هذا المار على هذه القرية هو‏:‏ أرميا عليه السلام، قال وهب بن منبه، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وغيرهما، وهو قوي من حيث السياق المتقدم‏.‏

وقد روي عن علي، وعبد الله بن سلام، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، وسليمان بن بريدة، وغيرهم، أنه عزير، وهذا أشهر عند كثير من السلف والخلف، والله أعلم‏.‏

 وهذه قصة العزير

قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر‏:‏ هو عزير بن جروة، ويقال‏:‏ بن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عري بن تقي بن اسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران‏.‏

ويقال‏:‏ عزير بن سروخا، جاء في بعض الآثار أن قبره بدمشق، ثم ساق من طريق أبي القاسم البغوي، عن داود بن عمرو، عن حبان بن علي، عن محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعاً لا أدري العين بيع، أم لا، ولا أدري أكان عزير نبياً أم لا‏.‏

ثم رواه من حديث مؤمل بن الحسن، عن محمد بن إسحاق السجزي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 52‏)‏

ثم روي من طريق إسحاق بن بشر، وهو متروك عن جويبر، ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ أن عزيراً كان ممن سباه بخت نصر، وهو غلام حدث، فلما بلغ أربعين سنة، أعطاه الله الحكمة، قال‏:‏ ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه، قال‏:‏ وكان يُذكر مع الأنبياء، حتى محى الله اسمه من ذلك، حين سأل ربه عن القدر، وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر، والله أعلم‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ عن سعيد، عن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن سلام‏:‏ أن عزيراً هو العبد الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ أنبأنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، ومقاتل، وجويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، وعبد الله بن إسماعيل السدي، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس وإدريس، عن جده وهب بن منبه قال إسحاق‏:‏

كل هؤلاء حدثوني عن حديث عزير، وزاد بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم‏:‏ إن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر‏.‏

ودخل الخربة وهو على حماره، فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين، وسلة فيها عنب، فنزل في ظل تلك الخربة، وأخرج قصعة معه، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه، فألقاه في تلك القصعة في العصير، ليبتل ليأكله، ثم استلقى على قفاه، وأسند رجليه إلى الحائط، فنظر سقف تلك البيوت، ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها، ورأى عظاماً بالية فقال‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏‏.‏

فلم يشك أن الله يحييها، ولكن قالها تعجباً، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، فأماته الله مائة عام، فلما أتت عليه مائة عام، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث، قال‏:‏ فبعث الله إلى عزير ملكاً، فخلق قلبه ليعقل قلبه وعينيه، لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى‏.‏

ثم ركَّب خلقه وهو ينظر، ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل، فاستوى جالساً فقال له الملك‏:‏ كم لبثت‏؟‏ قال لبثت يوماً أو بعض يوم‏.‏

وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة، وبعث في آخر النهار، والشمس لم تغب، فقال‏:‏ أو بعض يوم، ولم يتم لي يوم، فقال له الملك‏:‏ بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك يعني‏:‏ الطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة، فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير والخبز يابس، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ يعني‏:‏ لم يتغير‏.‏

وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شيء من حالهما، فكأنه أنكر في قلبه، فقال له الملك‏:‏ أنكرت ما قلت لك انظر إلى حمارك، فنظر إلى حماره قد بليت عظامه، وصارت نخرة، فنادى الملك عظام الحمار فأجابت، وأقبلت من كل ناحية، حتى ركبه الملك، وعزير ينظر إليه، ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم، ثم أنبت عليها الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الملك، فقام الحمار رافعاً رأسه، وأذنيه إلى السماء، ناهقاً يظن القيامة قد قامت فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضاً في أوصالها، حتى إذا صارت عظاماً مصوراً حماراً بلا لحم، ثم انظر كيف نكسوها لحماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 53‏)‏

فلما تبين له قال‏:‏ أعلم أن الله على كل شيء قدير من أحياء الموتى وغيره‏.‏

قال‏:‏ فركب حماره حتى أتى محلته، فأنكره الناس، وأنكر الناس، وأنكر منزله، فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، كانت أمة لهم‏.‏

فخرج عنهم عزير، وهي بنت عشرين سنة، كانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة، فقال لها عزير‏:‏ يا هذه أهذا منزل عزير‏؟‏

قالت‏:‏ نعم هذا منزل عزير فبكت وقالت‏:‏ ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً، وقد نسيه الناس، قال‏:‏ فإني أنا عزير، كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني‏.‏

قالت‏:‏ سبحان الله فإن عزيراً قد فقدناه منذ مائة سنة، فلم نسمع له بذكر، قال‏:‏ فإني أنا عزير‏.‏

قالت‏:‏ فإن عزيراً رجل مستجاب الدعوة، يدعو للمريض، ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك، فإن كنت عزيراً عرفتك، قال‏:‏ فدعا ربه، ومسح بيده على عينيها فصحتا، وأخذ بيدها وقال‏:‏ قومي بإذن الله، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت فقالت‏:‏ أشهد أنك عزير‏.‏

وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة، وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت‏:‏ هذا عزير قد جاءكم فكذبوها، فقالت‏:‏ أنا فلانة مولاتكم، دعا لي ربه فرد علي بصري، وأطلق رجلي، وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه‏.‏

قال‏:‏ فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه، فقال ابنه‏:‏ كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير، فقالت بنو إسرائيل‏:‏ فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة، فيما حدثنا غير عزير، وقد حرق بخت نصر التوراة، ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا، وكان أبوه سروخا، وقد دفن التوراة أيام بخت نصر في موضع يعرفه أحد غير عزير‏.‏

فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره، فاستخرج التوراة، وكان قد عفن الورق، ودرس الكتاب، قال‏:‏ وجلس في ظل شجرة، وبنو إسرائيل حوله، فجدد لهم التوراة، ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه، فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، فمن ثم قالت اليهود عزير بن الله، للذي كان من أمر الشهابين، وتجديده التوراة، وقيامه بأمر بني إسرائيل‏.‏

وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل، والقرية التي مات فيها يقال لها سايراباذ‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 54‏)‏

قال ابن عباس فكان كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ يعني‏:‏ لبني إسرائيل وذلك أنه كان يجلس مع بنيه، وهم شيوخ وهو شاب، لأنه مات وهو ابن أربعين سنة، فبعثه الله شاباً كهيئة يوم مات، قال ابن عباس‏:‏ بُعث بعد بخت نصر، وكذلك قال الحسن، وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس‏:‏

وأسود رأس شاب من قبله ابنه * ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر

يرى ابنه شيخا يدبّ على عصا * ولحيته سوداء والرأس أشقر

وما لابنه حيل ولا فضل قوة * يقوم كما يمشي الصبي فيعثر

يعد ابنه في الناس تسعين حجة * وعشرين لا يجري ولا يتبختر

وعمر أبيه أربعون أمرها * ولان ابنه تسعون في الناس عبر

فما هو في المعقول إن كنت دارياً * وان كنت لا تدري فبالجهل تعذر

 فصل

المشهور أن عزيراً نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان فيما بين داود وسليمان، وبين زكريا ويحيى، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة، ألهمه الله حفظها، فسردها على بني إسرائيل، كما قال وهب بن منبه، أمر الله ملكاً، فنزل بمعرفة من نور، فقذفها في عزير، فنسخ التوراة حرفاً بحرف حتى فرغ منها‏.‏

وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ لم قالوا ذلك‏؟‏ فذكر له ابن سلام ما كان من كتبه لبني إسرائيل التوراة من حفظه، وقول بني إسرائيل لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب، وأن عزيراً قد جاءنا بها من غير كتاب، فرماه طوائف منهم، وقالوا عزير ابن الله‏.‏

ولهذا يقول كثير من العلماء‏:‏ إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير، وهذا متجه جداً إذا كان العزيز غير نبي، كما قاله عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري‏.‏

وفيما رواه إسحاق ابن بشر، عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، وعن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه ومقاتل، عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏

كان في الفترة تسعة أشياء‏:‏ بخت نصر، وجنة صنعاء، وجنة سبأ، وأصحاب الأخدود، وأمر حاصورا، وأصحاب الكهف، وأصحاب الفيل، ومدينة أنطاكية، وأمر تبع‏.‏

وقال إسحاق بن بشر‏:‏ أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال‏:‏ كان أمر عزير وبخت نصر في الفترة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن أولى الناس بابن مريم الأنبياء أولاد علات لانا إنه ليس بيني وبينه نبي‏)‏‏)‏‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ كان فيما بين سليمان وعيسى عليهما السلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 55‏)‏

وقد روى ابن عساكر، عن أنس بن مالك، وعطاء بن السائب أن عزيراً كان في زمن موسى بن عمران، وأنه استأذن عليه فلم يأذن له، يعني لما كان من سؤاله عن القدر، وأنه انصرف وهو يقول‏:‏ مائة موتة أهون من ذل ساعة، وفي معنى قول عزير مائة موتة أهون من ذل ساعة قول بعض الشعراء‏:‏

قد يصبر الحر على السيف * ويأنف الصبر على الحيف

ويؤثر الموت على حالة * يعجز فيها عن قرى الضيف

فأما ما روى ابن عساكر وغيره، عن ابن عباس، ونوف البكالي، وسفيان الثوري وغيرهم، من أنه سأل عن القدر فمحا اسمه من ذكر الأنبياء، فهو منكر، وفي صحته نظر، وكأنه مأخوذ عن الإسرائيليات‏.‏

وقد روى عبد الرزاق، وقتيبة بن سعيد، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن نوف البكالي قال‏:‏ قال عزير فيما يناجي ربه‏:‏ ‏(‏يا رب تخلق خلقاً فتضل من تشاء، وتهدي من تشاء‏)‏ فقيل له‏:‏ أعرض عن هذا، فعاد فقيل له‏:‏ لتعرض عن هذا أو لأمحون اسمك من الأنبياء، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون‏.‏ وهذا لا يقتضي وقوع ما توعد عليه لو عاد فما محيا اسمه، والله أعلم‏.‏

وقد روى الجماعة سوى الترمذي من حديث يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة، وكذلك رواه شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه، فأخرج من تحتها، ثم أمر بها فأحرقت بالنار، فأوحى الله إليه مهلاً نملة واحدة‏)‏‏)‏‏.‏

فروى إسحاق بن بشر، عن ابن جريج، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه أنه عزير‏.‏ وكذا روى عن ابن عباس، والحسن البصري أنه عزير، فالله أعلم‏.‏

 قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

قال الله تعالى في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏

{‏كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 1-15‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 56‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37-41‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏89-90‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 85‏]‏‏.‏

قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل‏:‏ زكريا بن برخيا، ويقال‏:‏ زكريا بن دان، ويقال‏:‏ زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن اينا من ابن رحبعام بن سليمان بن داود أبو يحيى النبي عليه السلام من بني إسرائيل‏.‏

دخل البثينة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى، وقيل‏:‏ إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى، والله أعلم‏.‏

وقد قيل غير ذلك في نسبه، ويقال فيه زكريا بالمد وبالقصر، ويقال‏:‏ زكرى أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 57‏)‏

والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام، وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر، وكانت امرأته مع ذلك عاقراً في حال شبيبتها، وقد أسنت أيضاً حتى لا ييئس أحد من فضل الله ورحمته، ولا يقنط من فضله تعالى وتقدس فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً‏}‏‏.‏

قال قتادة عند تفسيرها‏:‏ إن الله يعلم القلب النقي، ويسمع الصوت الخفي‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته فقال‏:‏ يا رب يا رب يا رب، فقال الله‏:‏ لبيك لبيك لبيك‏.‏

{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي‏}‏ أي‏:‏ ضعف وخار من الكبر‏.‏

{‏وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً‏}‏ استعارة من اشتعال النار في الحطب، أي‏:‏ غلب على سواد الشعر شيبه، كما قال ابن دريد في مقصورته‏:‏

أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدَجا

واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جمر الغضا

وآض عود اللهو يبساً ذاويا * من بعد ما قد كان مجاج الثرى

يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطناً وظاهراً، وهكذا قال زكريا عليه السلام‏.‏

{‏إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً‏}‏ أي‏:‏ ما دعوتني فيما أسألك إلا الإجابة، وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان، وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير أوانها، ولا في أوانها، وهذه من كرامات الأولياء، فعلم أن الرازق للشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولداً، وإن كان قد طعن في سنه‏.‏

{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالموالي العصبة، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته، فسأل وجود ولد من صلبه يكون براً تقياً مرضياً ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ‏}‏ أي‏:‏ من عندك بحولك وقوتك‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلِيّاً * يَرِثُنِي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أي‏:‏ في النبوة والحكم في بني إسرائيل ‏{‏وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً‏}‏ يعني‏:‏ كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء، فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي‏.‏

وليس المراد ههنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة، ووافقهم ابن جرير ههنا، وحكاه عن أبي صالح من السلف لوجوه‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 58‏)‏

أحدها‏:‏ ما قدمنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏ أي‏:‏ في النبوة والملك، كما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين العلماء المروي في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها، من طرق عن جماعة من الصحابة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا نورث ما تركنا فهو صدقة‏)‏‏)‏‏.‏

فهذا نص على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يورث، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من وراثه، الذين لولا هذا النص لصرف إليهم، وهم‏:‏ ابنته فاطمة، وأزواجه التسع، وعمه العباس رضي الله عنهم‏.‏

واحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث، وقد وافقه على روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وأبو هريرة، وآخرون رضي الله عنهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء‏:‏

‏(‏‏(‏نحن معاشر الأنبياء لا نورث‏)‏‏)‏‏.‏ وصححه‏.‏

الثالث‏:‏ أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها، أو يلتفتوا إليها، أو يهمهم أمرها، حتى يسألوا الأولاد ليحوزوها بعدهم، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة، لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولداً يكون وارثاً له فيها‏.‏

الرابع‏:‏ أن زكريا عليه السلام كان نجاراً يعمل بيده، ويأكل من كسبها، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهاداً يستفضل منه ما لا يكون ذخيرة له، يخلفه من بعده، وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهم، إن شاء الله‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد - يعني ابن هرون - أنبأنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان زكريا نجاراً‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم، وابن ماجه من غير وجه عن حماد بن سلمة به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً‏}‏ وهذا مفسر بقوله‏:‏ ‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/59‏)‏

فلما بشر بالولد، وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد والحالة هذه له ‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً‏}‏ أي‏:‏ كيف يوجد ولد من شيخ كبير‏.‏ قيل‏:‏ كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة، والأشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك‏.‏

{‏وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً‏}‏ يعني‏:‏ وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد والله أعلم، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏ وقالت سارة ‏{‏قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72-73‏]‏‏.‏

وهكذا أجيب زكريا عليه السلام، قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ‏}‏ أي‏:‏ هذا سهل يسير عليه ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً‏}‏ أي‏:‏ قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 90‏]‏ ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت، وقيل‏:‏ كان في لسانها شئ أي‏:‏ بذاءة‏.‏

{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً‏}‏ أي‏:‏ علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به‏.‏

{‏قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً‏}‏ يقول‏:‏ علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزاً، وأنت في ذلك سوي الخلق، صحيح المزاج، معتدل البنية، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب، واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه‏.‏

{‏فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ والوحي ههنا هو‏:‏ الأمر الخفي، إما بكتابه كما قاله مجاهد والسدي، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضاً، ووهب، وقتادة‏.‏

قال مجاهد، وعكرمة، ووهب، والسدي، وقتادة‏:‏ اعتقل لسانه من غير مرض‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد‏.‏

‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً‏}‏ يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه‏.‏

قال عبد الله بن المبارك، قال معمر، قال الصبيان ليحيى بن زكريا‏:‏ اذهب بنا نلعب، فقال‏:‏ ما للعب خلقنا، قال‏:‏ وذلك قوله ‏{‏وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً‏}

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا‏}‏ فروى ابن جرير، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لا أدري ما الحنان‏.‏

وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك ‏{‏وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا‏}‏ أي‏:‏ رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا، فوهبنا له هذا الولد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2 /60‏)‏

وعن عكرمة ‏{‏وَحَنَاناً‏}‏ أي‏:‏ محبة عليه، ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس، ولا سيما على أبويه وهو محبتهما والشفقة عليهما، وبره بهما، وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائض والرذائل، والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره، ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمراً ونهياً، وترك عقوقهما قولاً وفعلاً فقال‏:‏ ‏{‏وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً‏}‏‏.‏

هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر، ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخاً إذا خرج من بين الأحشاء، وفارق لينها وضمها، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها‏.‏

وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار، وصار بعد الدور والقصور إلى عرصة الأموات سكان القبور، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور، فمن مسرور ومحبور، ومن محزون ومثبور، وما بين جبير وكسير، وفريق في الجنة وفريق في السعير، ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول‏:‏

ولدتك أمك باكياً مستصرخاً * والناس حولك يضحكون سرور

فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا * في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

ولما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل موطن منها فقال‏:‏ ‏{‏وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً‏}‏‏.‏

وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة‏:‏ أن الحسن قال‏:‏ إن يحيى وعيسى التقيا فقال له عيسى‏:‏ استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر‏:‏ استغفر لي أنت خير مني، فقال له عيسى‏:‏ أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك، فعرف والله فضلهما‏.‏

وأما قوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ فقيل‏:‏ المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء، وقيل غير ذلك، وهو أشبه لقوله‏:‏ ‏{‏هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد يقول أنا خير من يونس بن متى‏)‏‏)‏‏.‏

علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وهو منكر الحديث‏.‏

وقد رواه ابن خزيمة، والدارقطني، من طريق أبي عاصم العباداني، عن علي بن زيد بن جدعان به مطولا‏.‏ ثم قال ابن خزيمة‏:‏ وليس على شرطنا‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ حدثني ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوماً وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل‏:‏ موسى كليم الله، وقال قائل‏:‏ عيسى روح الله وكلمته، وقال قائل‏:‏ إبراهيم خليل الله، وهم يذكرون ذلك ‏(‏ج/ص‏:‏ 2 /61‏)‏

فقال‏:‏

‏(‏‏(‏أين الشهيد ابن الشهيد، يلبس الوبر، ويأكل الشجر مخافة الذنب‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ يريد يحيى بن زكريا‏.‏

وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا‏)‏‏)‏‏.‏

فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين، وقد عنعن ههنا‏.‏

ثم قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب مرسلاً‏.‏

ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم قد رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق‏:‏ حدثنا محمد بن الأصبهاني، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏

ما أحد لا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا ثم تلا ‏{‏وَسَيِّداً وَحَصُوراً‏}‏ ثم رفع شيئاً من الأرض فقال‏:‏ ما كان معه إلا مثل هذا، ثم ذبح ذبحاً‏.‏ وهذا موقوف من هذه الطريق، وكونه موقوفاً أصح من رفعه، والله أعلم‏.‏

وأورده ابن عساكر من طرق‏:‏ عن معمر، عن ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر وهو ضعيف، عن عثمان بن سباح، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه‏.‏

وروي من طريق أبي داود الطيالسي وغيره، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليها السلام‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني‏:‏ حدثنا إسحاق بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، سمعت أبا سليمان يقول‏:‏ خرج عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا يتماشيان، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى‏:‏ يا ابن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبداً‏.‏

قال‏:‏ وما هي يا ابن خالة‏.‏

قال‏:‏ امرأة صدمتها‏.‏

قال‏:‏ والله ما شعرت بها‏.‏

قال‏:‏ سبحان الله بدنك معي فأين روحك‏؟‏

قال‏:‏ معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرفة عين‏.‏

فيه غرابة وهو من الإسرائيليات‏.‏

وقال إسرائيل، عن أبي حصين، عن خيثمة قال‏:‏ كان عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا ابني خالة، وكان عيسى يلبس الصوف، وكان يحيى يلبس الوبر، ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم، ولا عبد ولا أمة، ولا مأوى يأويان إليه أين ماجنهما الليل أويا، فلما أرادا أن يتفرقا قال له يحيى‏:‏ أوصني،‏.‏

قال‏:‏ لا تغضب‏.‏

قال‏:‏ لا أستطيع إلا أن أغضب‏.‏

قال‏:‏ لا تقتن مالاً‏.‏

قال‏:‏ أما هذه فعسى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2 /62‏)‏

وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه هل مات زكريا عليه السلام موتا، أو قتل قتلا على روايتين‏.‏

فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ هرب من قومه فدخل شجرة، فجاؤوا فوضعوا المنشار عليهما، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن، فأوحى الله إليه لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض ومن عليها، فسكن أنينه حتى قطع باثنتين‏.‏ وقد روي هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله‏.‏

وروى إسحاق بن بشر، عن إدريس بن سنان، عن وهب أنه قال‏:‏ الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا، فأما زكريا فمات موتا، فالله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكاد أن يبطئ، فقال له عيسى عليه السلام‏:‏ إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن‏؟‏

فقال يا أخي‏:‏ إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي، قال‏:‏ فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏

إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن‏:‏ أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك، مثل من اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك، وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا‏.‏

وأمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا‏.‏

وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏.‏

وأمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال‏:‏ هل لكم أن أفتدي نفسي منكم‏؟‏ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه‏.‏

وآمركم بذكر الله عز وجل كثيراً، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/63‏)‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن‏:‏ بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربق الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم، قال‏:‏ يا رسول الله وإن صام وصلى‏؟‏ قال‏:‏ وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو يعلى، عن هدبة بن خالد، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير‏.‏

وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، وموسى بن إسماعيل كلاهما، عن أبان بن يزيد العطار به‏.‏

ورواه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن محمد بن شعيب بن سابور، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الأشعري به‏.‏

ورواه الحاكم، من طريق مروان بن محمد الطاطري، عن معاوية بن سلام، عن أخيه به‏.‏

ثم قال‏:‏ تفرد به مروان الطاطري، عن معاوية بن سلام‏.‏

قلت‏:‏ وليس كما قال‏.‏

ورواه الطبراني، عن محمد بن عبدة، عن أبي نوبة الربيع بن يافع، عن معاوية بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الأشعري، فذكر نحو هذه الرواية‏.‏

ثم روى الحافظ ابن عساكر، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال‏:‏ ذكر لنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات، وذكر نحو ما تقدم‏.‏

وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس، إنما كان يأنس إلى البراري، ويأكل من ورق الأشجار، ويرد ماء الأنهار، ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان، ويقول‏:‏ من أنعم منك يا يحيى‏.‏

وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه، فوجداه عند بحيرة الأردن، فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل‏.‏

وقال ابن وهب، عن مالك، عن حميد بن قيس، عن مجاهد قال‏:‏ كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه‏.‏

وقال محمد بن يحيى الذهلي‏:‏ حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال‏:‏ جلست يوماً إلى أبي إدريس الخولاني، وهو يقص فقال‏:‏ ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاما، فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال‏:‏ إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاماً، إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشهم‏.‏

وقال ابن المبارك، عن وهيب بن الورد قال‏:‏ فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام، فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبراً وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال‏:‏ يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام، وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه، فقال‏:‏ يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة، لا يقطع إلا بدموع البكائين‏.‏

فقال له‏:‏ ابك يا بني، فبكيا جميعا‏.‏

وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2 /64‏)‏

وروى ابن عساكر عنه أنه قال‏:‏ إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم، فكذا ينبغي للصديقين أن لا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عز وجل، ثم قال‏:‏ كم بين النعيمين وكم بينهما، وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه‏.‏